أفكار وآراء

تفشي وباء الانقلابات في أفريقيا

تجعل الروابط العميقة بين النخبة العسكرية في الغابون والمصالح المتشابكة مع فرنسا من الصعب فك الارتباط بينهما.

منذ أن بدأت موجة الانقلابات العسكرية الحديثة تضرب إفريقيا، أساسا غرب إفريقيا، ابتداءً من إنقلاب مالي في أغسطس 2000، تبعتها انقلابات عدة في فترة وجيزة: غينيا في سبتمبر 2021، وتشاد أبريل 2021، وبوركينافاسو يناير 2022، والنيجر يوليو 2023، والآن الغابون في أغسطس 2023.

أصبح تفشي عدوى الانقلابات المتتابعة مثار قلق كبير لدول المنطقة وبعض الأنظمة، خاصةً تلك التي تعاني من الهشاشة وفقر الديمقراطية، وكذلك لفرنسا التي باتت مصالحها، ومجال نفوذها وجاذبيتها، تتآكل.

وهذا ما قد يفسر هواجس باريس و مجموعة غرب أفريقيا من الانقلابات، وتعاطيها المختلف مع إنقلاب النيجر، بالتلويح باللجوء إلى الخيار العسكري، مقارنة بإنقلابات سابقة جرت في المنطقة.

وإذا كانت نظرية روبرت مكنمارا ” أحجار الدومينو” فشلت في التنبؤ بما سيحدث في الفتنام، عندما قال إن سقوط الفتنام في يد الشيوعية، سيجعل آسيا كلها ستسقط في قبضتها، فإن نظريته يمكن تطبيقها في سياق إفريقيا الفرنكفونية، إذ أن الدول تسقط واحدة تلو الأخرى.

وكان انتباه المتخصصين في الشأن الإفريقي، منصباً على محاولة التنبؤ بالزعيم أو الدولة الموالية التي ستسقط بعد إنقلاب النيجر. ويطرح السؤال الآن من سيلي علي بونغو في الغابون؟ مع أن البعض يعتبر أن الأوضاع في السنغال تبدو الأكثر عرضة للتوتر والاضطرابات.

فرنسا الخاسر الأكبر

من الواضح أن مصالح فرنسا تضررت في النيجر وفي دول أخرى، وأن ممانعتها بالبقاء في نيامي، بعدما طلب منها المجلس العسكري الرحيل، مؤقتة. ومن المرجح جدا أن لا تتدخل مجموعة الايكواس نظراً لتعقيد الوضع، وقد تتكلل المبادرة الجزائرية لحل الأزمة في النيجر بالنجاح، وتوصد الأبواب .أمام الاحترابيين من دول فرنكفونية تقاطعت مصالحها مع فرنسا في الإبقاء على نفس الأنظمة السابقة

وهذا قد يعني أنه إذا تشكلت حكومة مدنية منتخبة في النيجر، فمن الراجح أن أول خطوة قد تتخذها هي مطالبة فرنسا بحمل أمتعتها وأثقالها و مغادرة البلاد، كون ثمة إجماع بين الشعب والجيش على هذه الخطوة.

يبقى التحدي الأكبر أمام فرنسا هو تلمس السبيل إلى إيقاف نزيف الانقلابات، وإنقاذ ما تبقى من الدول الفرنكوفونية من السقوط.

فرنسا تبارك إنقلاب الغابون

جاء إنقلاب الغابون خاطفا، وقد يفاقم من أعباء فرنسا. وإذا أخذنا بعين الإعتبار عدوى الانقلابات المتفشية في المنطقة، وما أقدم عليه علي بونغو من تغيير للدستور، وتزوير الإنتخابات، ومنع المراقبين المحليين، وحظر الصحافة، وإغلاق الحدود وقطع الإنترنت، للبقاء في السلطة، فإنها مؤشرات من أن الأوضاع في الغابون معرضة للفوضى، وظروفها السياسية لا تحتاج أكثر عود ثقاب لتشتعل.

في ظل موجة الانقلابات التي تجري في المنطقة، لم يعد على بونغو، المعاق بسبب الجلطة، والذي عمر طويلاً في الحكم، سوى عبء على مصالح فرنسا. وثمة أنباء أن بونغو الإبن بعد اصابته بالجلطة، لم يعد يدير العديد من ملفات الدولة.

كما أن فرنسا، رغم قربها منه، كانت مستاءة من تزوير الإنتخابات الحالية، وتلك التي جرت في 2016، وقد يعد ذلك من بين الأسباب التي دفعت علي بونغو إلى الإنضمام إلى مجموعة الكومنولث في يناير 2022.

ونظرا لصحة على بونغو، وتفاديا أن يسوء الوضع، أو ينزلق إلى مناخ شعبي معادي لفرنسا، التي يعود لها الفضل في استمرار سلالة بونغو لعقود من الزمن، ترى طائفة من المراقبين أنه جرى عليه الانقلاب من قبل ضباط في الجيش بمباركة ضمنية من فرنسا.

الجنرال الذي تولى خلافته في السلطة الانتقالية ، بريس أوليغي أنغيما، كان ينتمي إلى الحرس الجمهوري، ويعد من بنى عمومته من جانب الأم، متهم هو الآخر بضلوعه في حالات فساد سابقة من بينها شراء عقارات بمبالغ باهضة. وهذا ما يؤشر على أن إرث بونغو قد لا يزول، وإنما على بونغو لم يعد صالح للحكم.

تجعل الروابط العميقة بين النخبة العسكرية في الغابون والمصالح المتشابكة مع فرنسا من الصعب فك الارتباط بينهما. وثمة تكهنات عديدة أن يكون إنقلاب الغابون خطوة استباقية، تهدف فرنسا من ورائها إلى تلافي أن تسقط الغابون في يد تيارات معادية لفرنسا، بفعل رئيس لم يعد مقبول شعبياً وسياسياً، ومناخ قابل الإنفجار.

الحقيقة أن فرنسا، باتت تدرك أن السلالات الإفريقية الحاكمة منذ فترة طويلة، من قبيل ساسو نغيسو رئيس الكونغو برازافيل (في المنصب منذ 1977) ، وبوول بيا رئيس الكاميرون منذ نوفمبر 1982، والذي أجرى تغيير على الجيش فور إنقلاب الغابون، ورئيس الطوغو ايسوزيما غناسينغبي إياديما الذي حكم منذ 2005، خلفا لوالده غناسينغبي إياديما الذي تولى السلطة عام 1972، أصبحت تشكل مصدر خطر على مصالح فرنسا. أصبحت الشعوب ناقمة على هذه الأنظمة القديمة، وترى أن قصر الإيليزي يقف وراء بقائها في السلطة. وهذا قد يكون أحد الأسباب الحقيقية لهيجان الشعوب واستمرار الانقلابات في مجال النفوذ الفرنسي في أفريقيا.

قد يكون من مصلحة فرنسا أن ترعى الانقلابات، مثلما كانت تفعل في السابق، وتزيح أنظمة قديمة، وتستبدلها بأخرى جديدة موالية لها، بحيث يظهر أن ذلك تحول في مسار البلاد، في حين أن الذي تغير هو الواجهة السياسية.